نموذج ملهم للشباب.. كيف حول محمود العربي محنة الستينيات إلى منحة
كثيرا ما يبحث الشباب عن قصص ملهمة لعلها تكون قدوتهم في طريق النجاح، فيلجأون إلى قراءة قصص نجاح رجال الأعمال في الغرب.. إلا أن في حياتنا المصرية والعربية نماذج ناجحة وملهمة أكثر من قصص نجاح “مارك زوكربيرج، وجيف بيزوس، وعلي بابا، وايلون ماسك”، هذا النجاح المصري والعربي، يستحق تسليط الضوء عليها لتكون نموذجا للكفاح والنجاح، ولعل شخصية الحاج محمود العربي، مؤسس ورئيس مجلس إدارة مجموعة مصانع العربي “العربي جروب”، أحد النماذج المكافحة والمضيئة في تاريخ مصر، منذ أن بدأ العمل في خمسينيات القرن الماضى، ويقود ابنه المهندس إبراهيم العربي، رئيس الاتحاد العام للغرف التجارية ونائب رئيس مجلس إدارة مجموعة العربي، الإمبراطورية الاقتصادية متسلحا بوجوده رفقة الأب القائد.
محمود العربي رجل أعمال عصامي بدأ من الصفر أو بالأحرى بدأ إمبراطوريته الاقتصادية بـ 40 قرشا، وبعد رحلة كفاح ومثابرة أصبح واحداً من كبار رجال التجارة والصناعة والاقتصاد في مصر، كل من تعامل معه يشهد له بالتواضع الشديد الممتلئ بالذكاء والحكمة، ورغم أنه لم يكمل تعليمه بسبب ظروف أسرته الاقتصادية إلا أنه استطاع بناء إمبراطورية صناعية كبرى.
لم يكن أحد يتوقع في قرية “أبو رقية” بمركز أشمون في محافظة المنوفية، أن يكون “إبراهيم” ابن الحاج “العربي” المزارع البسيط، رمزا اقتصاديا عصاميا للمحافظة ولمصر عامة، فقد ولد محمود العربي عام 1932 في أسرة ريفية فقيرة بقرية “أبو رقبة” بمركز “أشمون” في محافظة المنوفية، توفي والده وهو في سن صغير، انتقل بعدها إلى القاهرة، ليعمل بائعا في محل صغير لبيع الأدوات المكتبية وعمره لم يتجاوز العاشرة.
القرآن علمه الفرق بين الحلال والحرام
يفتخر الحاج محمود العربي بأنه ولد لأسرة فقيرة، لم تكن تمتلك “شبر أرض”، وكل ما استطاعت أن تقدمه الأسرة لابنها هو إلحاقه بـ “كتاب القرية” عندما بلغ من العمر 3 سنوات، وبدأ الابن في حفظ القرآن، الذي علمه الصدق والأمانة والفرق بين الحلال والحرام، ما ساعده على بناء سمعة طيبة اشتهر بها في جميع مراحل حياته.
الطريق الملياردير يبدأ بـ 40 قرشا
بدأ شهبندر تجار مصر الحاج محمود العربي التجارة في سن صغيرة جدا، بالتعاون مع أخيه الأكبر، الذي كان يعمل بالقاهرة، وعن تلك الفترة يقول العربي في كتابه “سر حياتي”: “كنت أوفر مبلغ 30 أو40 قرشا سنويا أعطيها لأخي لكي يأتي لي ببضاعة من القاهرة قبل عيد الفطر، وكانت هذه البضاعة عبارة عن ألعاب نارية وبالونات، وكنت أفترشها على “المصطبة” أمام منزلنا لأبيعها لأقراني وأكسب فيها حوالي 15 قرشا، وبعد ذلك أعطى كل ما جمعته لأخي ليأتي لي ببضاعة مشابهة في عيد الأضحى، وبقيت على هذا المنوال حتى بلغت العاشرة، حيث أشار أخي على والدي أن أسافر إلى القاهرة للعمل بمصنع روائح وعطور وكان ذلك في عام 1942م، وعملت به لمدة شهر واحد وتركته لأني لا أحب الأماكن المغلقة والعمل الروتيني”.
محمود العربي رجل أعمال مصري، وعضو برلمان سابق ورئيس مجلس إدارة مجموعة شركات العربي التي تأسست في العام 1964. يمتلك عدة توكيلات في جمهورية مصر العربية، على رأسها شارب، وتوشيبا، وسيكو وغيرها، ليبلغ رأس مال مجموعة شركاته المليار ونصف المليار جنيه مصري.
بعد ذلك انتقل العربي للعمل بمحل بحي الحسين وكان راتبه 120 قرشا في الشهر، واستمر في هذا المحل حتى عام 1949 ووصل راتبه إلي 320 قرشا، بعدها فضل العمل في “محل جملة” بدلا من المحل “القطاعي” لتنمية خبرته بالتجارة وكان أول راتب يتقاضاه في المحل الجديد 4 جنيهات وعمل فيه لمدة 15 عاما، ارتفع خلالها راتبه إلى 27 جنيها، وكان مبلغا كبيرا آنذاك حيث تمكن من دفع تكاليف الزواج.
في عام 1963م سعى العربي للاستقلال بنفسه في التجارة، لكن لم يكن لديه ما يبدأ به، ففكر هو وزميل له بنفس العمل، أن يتشاركا مع شخص آخر، على أن تكون مساهمته هو وصاحبه بمجهودهما، بينما يساهم الطرف الثاني بأمواله، وكان رأس مال المشروع 5 آلاف جنيه، وهكذا أصبح لديه أول محل بمنطقة “الموسكي” بالقاهرة، والذي مازال محتفظا به حتى الآن.
بعد أن بدأ العربي عمله الجديد بأيام قليلة مرض صاحبه وشريكه لمدة عامين، أدار خلالها المحل بمفرده ونمت تجارته بسرعة كبيرة فحقق محله أرباحاً كبيرة للغاية، خاصة أن محمود العربي اشتهر بأمانته وهي سر نجاحه.
واستمرت الشراكة عامين، ولكن تخللها خلاف حول إخراج الشريك الثالث المريض، وهو ما اعترض عليه العربي، وفي النهاية فضت الشركة، وكان المحل من نصيب الشريكين الآخرين، واشتري العربي وشريكه محلا آخر، وعاد الشركاء القدامى ليعرضوا عليه محلهم مرة أخرى، وبذلك أصبح يمتلك محلين بدلا منذ محل واحد ومعه أبناء شريكه المريض، ثم جاء بإخوته جميعا ليعملوا معه، بعد أن توسعت تجارته، ونجحت الشركة وحولها إلى “شركة مساهمة”.
زيارة اليابان نقطة التحول
بدأت علاقة العربي بالصناعة بإنشاء مصنع صغير للألوان والأحبار، ثم قام بتحويل مجال عمله من تجارة الأدوات المكتبية إلى تجارة وصناعة الأجهزة الكهربائية، وفي عام 1975 زار العربي اليابان، ورأى مصانع شركة توشيبا التي حصل على توكيلها، فطلب منهم إنشاء مصنع في مصر، وكان لديه أرض في طريق مصر-إسكندرية الزراعي، زارها خبراء من اليابان وأقروا بصلاحيتها، وتم إنشاء أول مصنع للشركة في مصر. حصل الحاج محمود العربي على ارفع وسام يابانى (وسام الشمس المشرقة) من الامبراطور اليابانى أكيهيتو في مايو 2009.
العربي يحول المحنة إلى منحة
قبل السفر إلى اليابان، كانت محمود تجارة العربي تعتمد على الأدوات المكتبية والمدرسية، ولكن الحكومة في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قررت صرف المستلزمات المدرسية للتلاميذ بالمجان، وهو ما يعني أن تجارة العربي لم يعد لها وجود، فاستعاض عنها بتجارة الأجهزة الكهربية، خاصة أجهزة التليفزيون والراديو والكاسيت.
وحول العربي تجارته بالكامل إلى الأجهزة الكهربائية في منتصف السبعينات مع انطلاق سياسة “الانفتاح الاقتصادي”، وفكر في الحصول على توكيل لإحدى الشركات العالمية، لكن وجود الأدوات المكتبية في محلاته كان يقف حائلا دون ذلك، إلى أن تعرف على أحد اليابانيين الدارسين “بالجامعة الأمريكية” بالقاهرة، وكان دائم التردد على محلاته، وكان هذا الشخص الياباني يعمل لدى شركة “توشيبا” اليابانية، فكتب تقريرا لشركته، أكد فيه أن العربي هو أصلح من يمثل توشيبا في مصر، فوافقت الشركة على منحه التوكيل.
وفي عام 1975م زار العربي اليابان، ورأى مصانع الشركة التي حصل على توكيلها، وطلب من المسؤولين فيها إنشاء مصنع لتصنيع الأجهزة الكهربائية في مصر وهو ما تم فعلا، على أن يكون المكون المحلي من الإنتاج 40% رفعت لاحقا إلى 60% ثم 65% حتى وصلت إلى 95%، ومع تطور الإنتاج أنشأ شركة “توشيبا العربي” عام 1978م.
“السياسة مضيعة للوقت”
أما عن أسباب عزوفه عن عالم السياسة فيقول الحاج محمود العربي في كتابه: “أنا في الأصل تاجر ودخلت الصناعة من باب التجارة الذي أفهم فيه، وفى الثمانينيات طلب مني محافظ القاهرة آنذاك أن أرشح نفسي لمجلس الشعب وألح في الطلب، ولكني رفضت رفضا قاطعاً، ثم طلب مني المحافظ التالي، وبعد طول إلحاح منه وافقت ودخلت البرلمان لدورة واحدة، لكنني أرى أن عضوية مجلس الشعب كانت مضيعة للوقت بالنسبة لي، وكان مصنعي ومتجري أولى بي، فللسياسة رجالها وأنا لست منهم”.
وإذا كان العربي قد بدأ تجارته بعامل واحد إلا أنه أصبح اليوم لديه 13 ألف عامل، ويطمح في أن يصل هذا الرقم إلى 20 ألف في 2010م، موضحا أن الشركة الأم باليابان يعمل بها 180 ألف موظف، ويتمنى أن يصل لهذا الرقم في مصر لمساعدة الشباب والمساهمة في القضاء على البطالة.
ويؤكد الحاج العربي أن موظفي شركاته يحصلون على رواتب مجزية تتفاوت حسب الكفاءة والمؤهل والخبرة، ويرفض تماما أن يعمل في شركاته أي شخص مدخن، ويشترط ذلك ضمن شروط التعيين، كما يرفض التعامل مع أي تاجر إسرائيلي، مؤكدا أنه ما دامت مشكلة احتلال الأراضي الفلسطينية باقية، فإنه لن يتعامل مع أي تاجر من إسرائيل، وقد سبق أن رفض مقابلة وفد تجاري إسرائيلي أثناء رئاسته لاتحاد “الغرف التجارية” لنفس السبب فهو من الرافضين لفكرة “التطبيع” مع إسرائيل.
رجل الأعمال العصامي الحاج محمود العربي رمز اقتصادى ورحلة كفاحه قدوة للأجيال، نتمنى تدريسها فى المناهج التعليمية، وتأكيدا لقيمة العمل والاجتهاد باعتبارهما الطريق الوحيد لتحقيق النجاح.